فصل من رواية: نورهان

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
22/02/2011 06:00 AM
GMT



انقطع الاتصال مرةً أخرى بيني وبين سلمان، لكن من جانبه هذه المرة، فقلت في دخيلتي من المؤكد أن الرتل الأميركي اللعين نفسه قد شوّش عليه، فهو قادم من الجهة التي قصدها ذلك الرتل. وعلى رغم أنني تضايقت، لم يخطر في بالي هاجس مقلق، فقد باتت هذه الحال مألوفةً لدى الجميع، وبعد دقائق قليلة ستزول، وربما سيصل سلمان قبل أن يكلمني أو أكلمه.
ابقيت هاتفي النقّال في يدي، ورحت أتخيّل شكل سلمان بعد ثلاثة وعشرين عاماً على غيابه، وأسأل نفسي: "كيف تكون مشاعري حين تتلاقى نظراتنا؟ هل يخفق قلبي بشدة وأتسمّر في مكاني؟ هل أعانقه وأقبّله أمام الناس في الشارع؟ هل أدفن رأسي في صدره وأنخرط في البكاء؟ هل أدعك شعره بأصابعي وأنا ملتصقة به كما كنت أفعل في ما مضى؟ وماذا بعد لقائي به؟ إلى أين نذهب؟ هل آخذه إلى بيتي لنعوّض عن حرمان سنين طويلة؟ لكنني يا ربي لست وحدي، معي ابنتي، ماذا أقول لها، وكيف يكون رد فعلها؟... لا، لا، من الأفضل أن أمكث معه بعض الوقت في سيارة هاشم أو في أحد المطاعم، ثم أطلب من صوفيا أن تذهب إلى بيت خالها بحجة أن صديقتي بولينا في خطر ويجب أن أبقى معها في المستشفى حتى الصباح. إنه حل معقول ولا يوجد أفضل منه". ثم أخذت أتخيّل كيف يكون لقائي بسلمان في البيت: "أسبقه على جناح السرعة أولاً وأبخّر غرفة النوم، واستبدل مفارش السرير، ثم أنتظره خلف الباب، أتركه نصف مفتوح كي يدخل فوراً... لكن ما أدراني أنه لن يخطئ العنوان؟ لا، لا، يُستحسن أن أجلس في الشرفة لأراقبه وهو يأتي، وحينما ألمحه مقبلاً ألوّح له بيدي، فيطمئن ويحثّ خطاه، عندئذ أهبط مسرعةً وأفتح الباب. بعد لحظات يدلف جذلاً ويغلقه وراءه، يحتويني بذراعيه ويضمّني إلى صدره بشغف، يلثم شفتيَّ بقبلة طويلة سرعان ما تُلهِب جسدينا المتعطشين أحدهما الى الآخر، ثم يعانقني فتلسع أنفاسه أذني ورقبتي، يعتصر بيديه خصري وظهري، يزداد التصاقاً بي. أسحبه من يده، من دون أن ينبس أحدنا بكلمة، وأُدخله إلى غرفتي، أُجلسه على السرير، أفتح له ألبوم أغاني خوليو الذي يحبّه. آه لو كان عندي زجاجة نبيذ! لكن لا بأس، سأرويه من نبيذ جسدي المعتّق. ألتقط من خزانة ملابسي قميص نومي الأبيض الشفّاف الذي يفضّله وأذهب إلى الحمّام، أغتسل على عجل، أجفف جسدي وأرشّ عليه العطر الذي يستثيره، أتقدّم إليه، أقف أمامه فيرفع رأسه ويحدّق مبهوراً إلى نهديَّ وهضبتي الرطبة الملساء، يهبّ واقفاً، يتجرد من ملابسه ويزيح القميص عن كتفيَّ، يُسقطه على الأرض، يحتويني ويشبك ذراعيه خلف ظهري ويشدّني إليه، يقبّلني بنشوة ويشمّ شعري، تحتكّ حلمتاي بشعر صدره الكثّ فتعتريني قشعريرة، يجرّني برفق إلى السرير، أضطجع على ظهري وأثني ساقيَّ وأفردهما، يركع على ركبتيه خاشعاً ويتأملني بنظرات مخبولة، يدسّ يديه تحت ردفيَّ ويرفعهما قدر ما يستطيع ويسألني: هل ما زال حبيبي يتضوّع برائحة الأناناس؟ أشعر بقليل من الخجل وأردّ عليه بصوت خافت: تذوّقه حبيبي... أنت أدرى"، وحين يشرع في التهامه أرتعش من اللذة، فتنطلق من أحشائي تأوهات شبيهة بثغاء حمل يموت. لكن هاجساً غريباً قطع فجأةً تدفُّقَ مخيّلتي: "تُرى هل يستطيع العائد من الموت أن يمارس الحب؟".
مرّ وقت أطول مما ينبغي ولم يتصل سلمان، فبدأ يساورني القلق. بحثتُ في هاتفي فإذا بي أعثر على الرقم الذي كلّمني منه، فرحتُ كثيراً واتصلتُ به، لكنه ظل يرن من دون ردّ، عاودني القلق ثانيةً، حاولت مراتٍ عديدةً لكن من دون جدوى، بعدئذ أُغلق الخط نهائياً ليتركني نهباً للحزن والخيبة، وأناجي ربّي: "يا إلهي، أيّ يوم عصيب هذا؟ لماذا تفتح لي باب الأمل ثم تغلقه في وجهي؟ ماذا فعلت كي تعاقبني بهذه الطريقة؟ دعني أنعم بلذة الحب مع رجل حياتي في ما تبقّى من عمري، ثم افعل بي ما تشاء في آخرتك، هل أجرمت لأنني أحببت وعشقت؟ أليس الحب أجمل إحساس زرعته في قلوب البشر؟ ألا يشيخ الإنسان إذا توقف عن العشق كما يقول عبدك ماركيز؟ أعدِكَ بأنني سأصلّي لك حتى الموت إن سهّلتَ وصول حبيبي إليَّ الآن. ألستَ من أعاده إلى الحياة بعد كل هذه السنين، فلماذا لا تكمل جميلك وتجمعني به ثانيةً؟". لكنّ ربي لم يستجب مناجاتي، تركني مهشّمةً وفريسةً للألم، فقررت أن أنساه إلى الأبد وأبحث عن سلمان بنفسي.
عبرتُ إلى الشارع الثاني، شاردة الذهن، لا أعير أيّ اهتمام للسيارات المسرعة، وأوقفتُ سيارة أجرة متهالكةً. كان النهار قد اقترب إلى الزوال والسماء فقدت زرقتها من شدة السحاب الذي بدأ يغلظ ويركب بعضه بعضاً، طلبتُ من السائق أن يوصلني إلى جسر "النصر"، ماذا يفعل الغريق إلاّ أن يتمسك بقشة؟ ربما حدث لسلمان أمر طارئ كما في المرة الأولى، فكّرتُ في ذلك عقب نصف ساعة من الانتظار. لكن السائق رفض أن يسلك الشارع المؤدي إلى الجسر عبر "الشورجة"، متحججاً بأنه مغلق. سألته مرتابةً:
- من أغلقه؟
خفّض صوت المسجّل، الذي يبث أغنيةً حزينة لمغنية ريفية، وقال:
- هل يوجد غيرهم؟ الأميركان.
انعطف في اتجاه حيّ "المصلى"، وأضاف:
- لعنة الله عليهم في الدنيا والآخرة.
ثم رفع صوت المسجّل، وأخذ يردّد مع المغنية بلوعة منبعثة من القلب، وكأنه يوجه نداءً إلى شخص غائب:
"من يوم ما سافرْتْ قلبي أخذته وياك
هم زين أخذته ورحت مايرهم بليّاك
لا أقدر آني أجي ولا أقدر آني انساك
حسّيت عيني انطفت من قُتْلَك ألله وياك"
ضربتني الأغنية في الصميم، لكني أخفيتُ تأثري بها وقلت:
- عفواً عمّي، لماذا أغلقوه؟
أطفأ المسجّل وقال:
- قبل وصولهم إلى الجسر تعرّض رتلهم إلى صاروخ.
استولى على روحي ضرب من القلق أكثر فظاعةً، فسألته:
- وكيف كان ردّ فعلهم؟
- كالعادة... جُنّ جنونهم، فأطلقوا النار بشكل عشوائي على سطوح المنازل والسيارات المارة، ثم أغلقوا الشارع وقبضوا على الأبرياء.
ازدادت ضربات قلبي وخامرني شعور سوداوي:
- هل قتلوا أحداً؟
- الله وحده يعرف عددهم، لكني أخمّن أنهم ليسوا أقل من عشرين.
شهقت:
- يا ويلي!
جفل السائق:
- هل أنت من سكان تلك المنطقة؟
قلت:
- لا، لا، أنا... أقصد لي فيها أقارب.
- الله الحافظ يا ابنتي.
كان السائق، ذو السحنة الغامقة السمرة، يربو على الستين من عمره، ولهجته أقرب إلى لهجة أهل الريف، يلفّ رأسه بشماغ عتيق، من دون عقال، يخفي معظم لحيته البيضاء. سألته بصوت مخنوق:
- هل نقلوا المصابين إلى المستشفى؟
- لا أدري.
- أرجوك أوصلني إلى المكان من شارع آخر.
- سأحاول.
أخذت السماء تنثّ رذاذاً ناعماً تلتصق قطراته بزجاج السيارة، فرفعتُ رأسي وتساءلت بصوت مرتفع تناهى إلى سمع السائق:
- لماذا تدير لي ظهرك يا ربّي؟ أليس هذا منتهى القسوة؟
فنظر إليَّ من خلال المرآة وقال محتجاً:
- لا تكفري رجاءً. الله ليس بشراً حتى تعاتبيه. إنه أرحم الراحمين.
- لو تعرف ما بداخلي يا عمّي لما كفّرتني.
- الله ليس مسؤولاً عما يجري لنا.
- أعرف. لكن من حرقة قلبي أقول ذلك.
- الأفضل أن تطلبي منه العون والرحمة.
- طلبت فلم يستجب.
- اصبري.
- آه لو كنت تعرف مأساتي.
أزاح شماغه عن جانبَي وجهه فبدت وجنتاه من خلال المرآة غائرتين كأنه من دون أسنان، وقال:
- كلنا عندنا أقارب يمكن أن يُقتلوا في كل لحظة. أنا فقدت زوجتي.
- مأساتي أعقد.
- كيف؟
- يصعُب عليَّ توضيحها لك. أقصد أنها غير قابلة للتصديق.
- وهل ما جرى لنا قابل للتصديق؟ اتقِّي الله يا ابنتي.
قاد السائق سيارته في شارع ترابي متعرج محاذٍ لسور مقبرة مترامية الأطراف. بقينا صامتين بضع دقائق، لكنني كنت أغلي من الداخل، وفجأةً تبادر إلى ذهني أن أسأله:
- هل تؤمن بالمعجزات؟
تردد قليلاً ثم قال:
- الله قادر على كل شيء.
- افترض أن زوجتك عادت إلى الحياة، هل تفرح؟
- أفرح؟ بل أقلب الدنيا من الفرح.
- وكيف يكون رد فعلك لو أنها قُتلت مرةً أخرى قبل أن تراها؟ 
- أُجنّ حتماً.
ضغط السائق على دواسة الفرامل ليتفادى مجموعة أحجار متناثرة، وأضاف:
- لكنه افتراض غير معقول.
لذتُ بالصمت، وأدرتُ وجهي إلى جمهرة رجال منهمكين بدفن جثة في الطرف القصي من المقبرة، وعلى مبعدة منهم حلقة نساء حللن شعورهن ومزّقن ثيابهن، وهن ينُحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، فشعرتُ بانقباض عضلات قلبي، ونكّست رأسي.
بعد قليل تحوّل رذاذ المطر زخات شديدة الوقع تضرب ﺍﻷﺭﺽ بقوة، أعقبها ﻫﺩﻴﺭ ﺭﻋﺩ ووميض برق. استبدل السائق شريط المسجّل بآخر يحتوي على أدعية وأذكار لشيخ ذي صوت يافع ينشج ويزفر كأنه سيودع الدنيا بعد لحظات، وأخذ يسير على هون حتى بلغ الشارع الرئيسي الذي يربط جسر "النصر" بحي "الشورجة". استدار إلى اليمين وقاد سيارته بهدوء، لم نجد أمامنا أي عائق، فتأكد لنا أن الرتل الأميركي قد انسحب ولم يعد الشارع مغلقاً. من بعيد تراءت لنا قبل منحدر الجسر مجموعة سيارات مصابة يزيد عددها على سبع، وعند المثلث الذي ينتهي إليه شارع فرعي يتجه إلى اليمين، ربضت سيارة بيك آب أميركية للشرطة مطلية باللون الأبيض والأزرق وقد ترجّل أفرادها، باستثناء سائقها، شاهرين بنادقهم تحت وابل المطر. عندما مررنا من جانبهم خفّف السائق من سرعته فتسنى لي أن أرى السيارات المصابة عن قرب، كانت ذات ألوان مختلفة، إحداها خمرية، ففزعت وقلت لنفسي "يا لمصيبتي، لا بد أن تكون هذه سيارة هاشم"، وتحفزت للطلب من السائق أن يتوقف عندها لألقي نظرةً عليها، لكني أيقنت أنه لن يفعل خوفاً من الشرطة، فمضى عابراً الجسر، بينما راحت عيناي تدمعان وقلبي ينزف.
عند نهاية الجانب الآخر من الجسر سألني السائق:
- إلى أين تريدين أن أوصلك الآن؟
قلت بصوت متحشرج تخنقه العبرات:
- خذني إلى المستشفى الجمهوري.
كان المستشفى يغص بعشرات من الناس، عدا المرضى؛ رجال في حركة دائبة بين أبواب غرف العمليات والعناية المركزة وأجنحة الجراحة، وأطباء وممرضون يتنقلون بكمامات طبية أو من دونها، ونساء يفترشن الممرات وهن مستغرقات في العويل ودعاء الله أن يخسف الأرض تحت أقدام الأميركان، ويذلّهم ويهبهم الموت الزؤام. كانت أصواتهن حادةً ولها طنين، ولا أحد يستطيع أن يسكِتهن أو يطلب منهن مغادرة المكانعلى  رغم الفوضى التي أشعنها، ولو تجرأ أحد المسؤولين أو الحرس على ذلك لهجمن عليهم وأشبعنهم ضرباً. لم يكن بين الحضور الكثيف داخل المستشفى أي مسؤول حكومي، وكأن الضحايا مجرمون لا مواطنون أبرياء.
سألتُ موظف الاستعلامات عما إذا كان بين المصابين شخصان أحدهما سلمان والثاني هاشم، فتصفح سجلاً بين يديه وقال:
- إصابة هاشم خفيفة. تجدينه في جناح الجراحة رقم 3، أما سلمان فهو في صالة العمليات.
شهقت:
- هل حالته خطرة؟
- لا أدري. هل أنت زوجته؟
تلعثمت:
- لا، لا، أنا...
- أخته؟ من أقربائه؟
- ابنة خالته. و...
- يمكنك زيارة هاشم، أما سلمان فلن تستطيعي رؤيته اليوم.
شعرتُ بشيء ما تحطم في داخلي، وانهمرت دموع ساخنة على وجنتي. شكرتُ الموظف وهرعتُ إلى الجناح رقم 3، مخترقةً بصعوبة الحشد الذي يحتل الممر الطويل. دلّني ممرض شاب إلى سرير هاشم. وجدته راقداً على جنبه الأيمن وقد كسا وجهه بعض الاصفرار والشحوب. وقفتُ خلفه وناديته بصوت خافت مرتعش، لم يرد عليَّ، لكن مريضاً نحيفاً ضئيل الجسد على مقربة منه، بادر قائلاً:
- إنه نائم. هل أنت زوجته؟  
تجاهلتُ سؤاله:
- سأنتظره حتى يفيق.
جلستُ على كرسي بلاستيكي مجاور لسرير هاشم، فأراد المريض النحيف أن يكلّمني مرةً أخرى لكني أدرتُ له ظهري وبقيتُ أراقب وجه هاشم. كان رأسه سليماً وجسده مغطّى بملاءة بيضاء، فلم أستطع أن أتبيّن أيّ أثر لإصابته، وبعد نصف ساعة غادرتُ الجناح إلى الخارج لأدخن سيجارةً. كان المساء قد حلّ تماماً والمطر توقف عن الهطول. اتصلتُ بإبنتي وأخبرتها بأنني سأتأخر عند صديقتي بولينا، لكنها فاجأتني بسؤالها عن لقائي بسلمان، فقلت لها متهرّبةً:
- سأحدثك في ما بعد، هل اتصلت خالتي ألماس؟
قالت:
- لم تتصل، لكن عمّي مراد جاء إلى البيت مرتين، وفي المرة الثانية كان برفقة رجل اسمه فرهاد...
 استغربت:
- أي فرهاد؟
- لا أدري. يبدو أنه يعرفك منذ زمن طويل.
- هل قالا لك شيئاً؟
- لا، سألا عنك فقط، لكني لم أعطهما رقم هاتفك.
- أمر غريب.
- ماذا؟
- لا شيء.  
بعدما أنهيت مكالمتي أيقنت أن مجيء مراد وفرهاد إلى البيت ليس مصادفةً، بل له علاقة بعودة سلمان الغامضة والخارقة إلى الحياة، إلاّ أن حيرةً شديدةً أضيفت إلى عذابي المر، فتساءلتُ في سري: "تُرى كيف عرفا بعودته؟ هل يدرك الاشخاص المقرّبون أمراً كهذا من دون أن يخبرهم أحد؟ لو صحّ ذلك لكنت أول من أدرك! مَن أخبرهما إذاً؟ هل يُعقل أن سلمان نفسه اتصل بهما مثلما اتصل بي؟ من أين حصل على رقميهما؟ ربما كان هاشم يعرف رقم مراد. لقد صُدما حتماً مثلي. ولكن لماذا ذهبا إلى بيتي بدلاً من الذهاب إلى بيته؟ إنها ألغاز لن يحلّها إلاّ هاشم. فلأرجعْ إليه وأنتظر حتى يفيق من غفوته".
أشار اليَّ المريض النحيف بيده، وأنا أدلف إلى الجناح، إشارةً فهمتُ منها أن هاشم قد استيقظ من النوم، فأسرعتُ إليه، يغمرني شعور مبهم، حزن ولهفة في آن واحد. أزاح الملاءة عن جسده وحاول رفع جذعه عن السرير ليسلم عليَّ، لكنه عجز عن الحركة، انحنيتُ على رأسه وقبّلته من جبينه ودعوتُ له بالسلامة، مفتعلةً ابتسامةً منكسرةً، فيما راحت دموعي تنهمر، وكادت تهمي حبّات منها على صدره لولا أنني عجّلتُ في مسحها. نويتُ أن أسأله عن سلمان، إلاّ إنه دعاني إلى الجلوس على الكرسي وسبقني قائلاً:
- هل رأيتِه؟ لماذا وضعوه في جناح آخر؟
تمالكتُ نفسي وقلت:
- اطمئن، إنه بخير.
حدّق إلى عينيَّ وقال:
- لكنني أعتقد أن إصابته أبلغ مني.
- لن يعجز الأطباء عن معالجته.
- كيف كانت لحظة لقائكِ به؟
- مذهلة جداً.
- هل أخبركِ عن الرواية التي كان يحلم بكتابتها هناك؟
- لم يسمحوا لي أن أمكث معه طويلاً.
- كان يودّ أن يسمّيها "عاشقان من أرابخا"، لكن سجّانيه في الأسر حرموه من أدوات الكتابة.
فغرتُ فمي وكدتُ أسقط على وجهي من هول المفاجأة: 
- في الأسر؟ هل كان سلمان أسيراً؟!
- من أين عاد إذاً؟
شعرتُ بأن الأرض تميد بي، أمسكتُ بطرفَي الكرسي وثبتُّ جسدي عليه بصعوبة، أما هاشم فقد واتته قوة غريبة وتمكّن من رفع جذعه ومدّ يده ليمسكني من ذراعي:
- نحن أيضاً صُدمنا أمس بعودته.
- يا إلهي! ومن يكون ذلك الذي يرقد في قبره؟
رمى ظهره على السرير وقال:
- لا أحد يدري. ربما يكون مراد هو الشخص الوحيد الذي يعرف.
- منذ ثلاثة وعشرين عاماً وسلمان أسير؟ لماذا لم يكتب إذاً أيّ رسالة؟ آلاف الأسرى كانوا يتبادلون الرسائل مع أهلهم بواسطة الصليب الأحمر.
- لم يكن مسجَّلاً فيها.
- لماذا؟
- كان الإيرانيون غاضبين عليه فوضعوه في قفص ناء قرب الحدود الأفغانية، ومنعوا لجان الصليب الأحمر من زيارته.
نهضتُ من الكرسي، وغادرتُ الجناح بسرعة خاطفة وأنا أستعيد في رأسي كلام سلمان:
"لولا حبّكِ لما استطعت تحمّل الأمكنة الرهيبة التي ساقوني إليها. كنتِ وحدكِ البلسم الذي يمنحني قوةً غامرة، تحملين لي السكينة فتزداد مقاومتي لهم. إني أدين لك بالبقاء يا نورا، وأشعر الآن بأنني انبعثت من جديد خصيصاً من أجلك.
- كنتَ تقاوم مَنْ؟
- كلاب وذئاب وضباع وسفلة".
خضتُ مرةً أخرى موج البحر المتلاطم في ممرات المستشفى حتى بلغت صالة العمليات الكبرى، وجدتها مغلقةً، نظرتُ إلى داخلها من خلال نافذة الباب الزجاجية الدائرية فإذا بها تغرق في العتمة، ولا شيء يوحي إلى وجود حياة فيها. أخذتُ أصرخ كالمعتوهة وأطرق الباب بعنف، لم يفتحه لي أحد، فعزمتُ على اقتحامها بكل الغضب الذي انبعث من أعماقي، لكن اثنين من الممرضين هرعا إليّ وأمسكا بي من ذراعيّ، كانت ملامح أحدهما تشبه ملامح الرجل الذي رأيته في الحديقة، والآخر امرأة بدينة تشبه زوجته الوقحة التي شتمتني. سحباني إلى غرفة مجاورة وأقعداني على كرسي خشبي. ظلّ الرجل واقفاً أمامي وراح يمتص انفعالي وتوتري، بينما فتحت المرأة خزانةً وأخرجت منها كأساً مملوءةً بسائل شفّاف، يميل إلى الاصفرار قليلاً، وقدّمتها اليَّ. شربتها دفعةً واحدةً وغطيتُ وجهي بكفيَّ وصمتُّ. بعد لحظات بدأ أثر السائل يدبّ في جسدي، وشعرتُ بأن ساقيَّ أصبحتا واهنتين كالقطن، وبأن عظامي تتكسّر تحت جلدي، وتتسلل إلى صالة العمليات. 

*فصل من رواية، عنوانها "عشّاق أرابخا"، تصدر قريباً.